بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمدُ لله ربِّ العالمينَ،
وأفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ التَّسليمِ على سيِّدِنا ومولانا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
الزَّاوية البادنجكيَّة وأصولُها العريقة وفروعُها
تقعُ الزَّاويةُ البادنجكيَّةُ في حلب الشَّهباء في الإيوانِ الشَّماليِّ من المدرسة الطُّرُنطائيَّة في باب النَّيرب، وتُنسب إلى الوليِّ الشَّهير والنَّاسك المُسلِّك الجليل، العارف بالله تعالى السَّيِّد الشَّيخ محمَّد سعيد ابن السَّيِّد عبد الواحد المَيْدَانجكي الحسينيِّ النَّبهانيِّ نسبًا، الشَّافعيِّ مذهبًا، القادريِّ والخلوتيِّ طريقةً، المولود في حلب سنة: /1189/هـ، سليل أهل الحديث من آل النَّبهانيِّ الحسينيَّةِ أصحابِ الزَّاوية الشَّهيرة في جِبرين ظاهر حلب.
عَمِل الشَّيخ سعيدٌ -رضي الله عنه- على إحياء حِلَقِ الذِّكرِ والأورادِ في المدرسةِ الطُّرُنطائيَّة، وهو أوَّلُ من أقامَ الأذكارَ والخلواتِ من آل البادنجكيِّ في المدرسة المذكورة، وهو أوَّلُ من أُطْلِقَتْ عليه نسبة المَيْدَانجكي (البادنجكي) لإقامتِه في محلَّة مَيْدَان جُك، أي (المَيدان الصَّغير) باللُّغة التُّركيَّة.
قال الشَّيخ محمَّد راغب الطَّباخ في كتابه إعلام النُّبلاء بتاريخ حلب الشَّهباء بعد أن ذَكَرَ في ترجمته للشَّيخ سعيد سلوكَه في الطَّريق على الشَّيخ إبراهيم الدَّارعزانيِّ، وأخذَه الطريقةَ الخلوتيَّةَ والقادريَّةَ عنه، وتخليفَه مِن قِبَلِه، ما نصُّه: (ثمَّ بعد سنتين - يعني من إقامة الشَّيخ سعيدٍ الأذكارَ في جامعِ مَيْدَان جُك (بادنجك) - انتقلَ إلى المدرسةِ الطُّرُنطائيَّة الكائنة في محلَّة محمد بيك، وصار يقيمُ الذِّكْرَ هناك إلى أن انتقلَ إلى رحمة الله تعالى سنة: /1250/هـ، ودُفِنَ في تربة باب المَلِك، وكان يتعاطى صنعةَ الحِياكةِ، وكان ملازِمًا للذِّكر في هذه الحالة، ورُئي له كراماتٌ ظاهرة).
إلَّا أنَّ الصَّحيحَ في وفاتِه أنَّها كانت في سنة: /1252/هـ، كما في مشجَّر آل البادنجكي ووثائقهم، ونظمِ الشَّيخ محمَّد أبي الوفا الرِّفاعيِّ لتاريخ وفاتِه.
كما أشار إلى وِلايته وزهدِه ونُسكِه ونسبتِه إلى الطَّريق القادريِّ الشَّيخُ محمَّدٌ أبو الوفا الرفاعيُّ في منظومته في أولياء حلب -رضي الله عنهم.
ويرجع نسبُ الشَّيخ سعيد إلى جدِّه قدوةِ البلاد الحلبيَّة وشيخِها الشَّيخ العابد محمَّد بن نبهان الجبرينيِّ الحسينيِّ صاحبِ الزَّاوية المشهورة في جِبرين المتوفى سنة: /744/هـ، فكان أجداده -رضي الله عنهم- أصحابَ علم وعبادة ومشيخة.
قال ابن الوردي في ذيل تاريخ أبي الفدا سنة: تسع وأربعين وسبعمائة في شهر ذي القَعدة: (توفِّي الشَّيخ عليُّ ابنُ الشَّيخ محمَّدِ ابن القدوةِ نبهان الجبرينيُّ بجِبرين، وجلس على السَّجادة ابنُه الشَّيخ محمَّدٌ الصُّوفيُّ، كان الشَّيخ علي بحرًا في الكرم رحمه الله تعالى).
كما في تتمَّة المختصر في أخبار البشر لابن الورديِّ.
وقد ذكر الزَّاوية النَّبهانيَّة ومشيخَتَها الحافظُ ابنُ حجر العسقلانيُّ في كتابه الدُّرر الكامنة في أعيان المئة الثَّامنة في ترجمة محمَّدِ بن عليِّ بن محمَّدِ بن نبهان قال: (وكان له سماعٌ عن عمِّ أبيه صافي بن نبهان وحدَّث)، وفي ترجمة محمَّدِ بن نبهان الجبرينيِّ، المتوفَّى سنة: /744/هـ، وقال: (وقد حدَّث عن ابن المُحبِّ بجزء تخريج ابن بلبان من سماع ابن المُحبِّ، وفيه يقول ابنُ الورديِّ:
يــكون لقــلبي بالمقــابلةِ الجَبــْرُ وكنتُ إذا قابلتُ جبرينَ زائرًا
نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدرُ. كــأنَّ بني نبـهان يومَ وفـاته
وقال الصَّفديُّ في الوافي بالوَفَيات: (شيخُ حلب محمَّدُ بنُ نبهان الشَّيخُ الصَّالح الزَّاهد ...).
ا.هـ. أمَّا تسلسل المشيخة في الزَّاوية البادنجكيَّة فقد ذكر فضيلةُ العلَّامة الشَّيخِ عبد الغنيِّ بن الشَّيخِ محيي الدِّين المَيْدَانجكي المتوفَّى سنة: /1365/هـ: أنَّ الشَّيخ محمَّد سعيد المَيْدَانجكي أخذ الطَّريق عن الشَّيخ إبراهيم الهلاليِّ، وسلَكَ وحصل له الإذن في المشيخة، لكنَّه تأدُّبًا مع شيخه المذكور لم يصِر خليفةً في حياة شيخِه، ثمَّ بعد انتقالِه وخلافِة ابنِه محمد الهلاليِّ، ذُكِرَ الإذنُ للشَّيخ محمدٍ سعيدٍ، فجعلَه خليفةً بعد أخذِ الطَّريقِ عليه فصارَ خليفةً عنه، ثم انتقل الشَّيخ محمَّد سعيد في حياة الشَّيخ محمَّدٍ الهلاليِّ، فأعطى الشَّيخ محمَّدٌ المذكورُ الطَّريقَ لابنه محمَّدٍ المَيْدَانجكي الشَّهيرِ بأبي كِرْش، وجعلَه خليفةً عن والدِه الشَّيخِ محمَّدٍ سعيدٍ …
ثم انتقلَ الشَّيخُ محمَّدٌ المَيْدَانجكيُّ في حياة الشَّيخ عبدِ اللَّطيفِ الهلاليِّ، فأعطى الشَّيخُ عبدُ اللَّطيف المذكورُ الطَّريقَ لأخيه الشَّيخِ محمَّدٍ محيي الدِّينِ المَيْدَانجكيِّ وجعلَه خليفةً عنه بعد سلوكِه عليه، ثم انتقلَ الشَّيخُ محمَّدٌ محيي الدِّينِ المَيْدَانجكيُّ وصارَ ولدُه محمَّدٌ خليفةً عنه، ثم انتقلَ وصارَ أخوه عبدُ اللَّطيفِ خليفةً بعده، ثم انتقلَ وصارَ أخوه الفقيرُ إليه تعالى عبدُ الغني خليفةً بعده. كما ذكر الشَّيخُ عبدُ الغنيِّ أنَّ فضيلةَ الشَّيخِ محمَّدٍ سعيد المَيْدَانجكيِّ أخذ عن الشَّيخِ إبراهيمَ الهلاليِّ، وعن الشَّيخ محمَّدٍ سعيد أخذ ولدُه الشَّيخُ محمَّدٌ المَيْدَانجكيُّ أبو كِرْش، وعنه أخذ أخوه محمَّدٌ محيي الدِّينِ المَيْدَانجكيُّ، الذي سلك في الطَّريق على يد الشَّيخ عبدِ اللَّطيف الهلاليِّ ولدِ الشَّيخ إبراهيمَ الهلاليِّ. ا.هـ. ويَذكُرُ أحفادُ الشَّيخِ محيي الدِّين المَيْدَانجكيِّ أن الشَّيخَ محيي الدِّين أعطى الطَّريق لأولادِه السِّتةِ وهم الشَّيخُ محمُّدٌ، والشَّيخُ عبدُ اللَّطيف، والشَّيخُ عبدُ الغنيِّ من زوجتِه شريفةَ بنتِ عمرَ النَّيال، والشَّيخُ سعيدٌ، والشَّيخُ عبدُ الرَّحمن، والشَّيخُ عليٌّ من زوجته رُقيَّةَ بنتِ أحمدَ الكياليِّ.
قال الشَّيخُ كاملٌ الغَزِّيُّ عند كلامه عن المدرسة الطُّرنطائيَّة: (تُقامُ في مسجدِها الصَّلاةُ والأذكارُ، قدِ اتَّخَذَها زاويةً العالـمُ العاملُ الشَّيخُ محيي الدِّين البادنجكيُّ وخلفاؤه من بعده، وهو ينتسبُ إلى وليِّ الله الشَّيخِ نبهانَ الجبرينيِّ).
أمَّا فروع الزَّاوية البادنجكيَّة فقد تفرَّع عنها عدَّةُ زوايا وأوقاتِ ذِكْرٍ منها: - وقتٌ كان للشَّيخ إبراهيمَ بن الشَّيخ محمَّد بن الشَّيخ محيي الدِّين بادنجكيِّ، يُحييه بالذِّكْر في مسجد حارة الخواجة في باب النَّيرب بحلب بإذنٍ من جدِّه الشَّيخ محيي الدِّين رضي الله عنهما.
- ووقتٌ آخرُ كان للشَّيخ محمَّد المَسْهوج تلميذِ الشَّيخ محمَّدِ بن الشَّيخ محيي الدِّين بادنجكيِّ يُحييه بالذِّكْر ظُهرَ كلِّ يوم جُمعة في قرية السَّيِّد من منبج بإذنٍ من شيخِه الشَّيخ محمَّد.
ومنها زاويةُ الشَّيخ محمَّد بهاء بن الشَّيخ عبد الرَّحمن بن الشَّيخ محيي الدِّين بادنجكيِّ، يقيمُ الذِّكرَ فيها عصرَ كلِّ يوم جُمعة في جامع الشَّيخ عبد الرَّحمن البادنجكيِّ ( الصَّالحيَّة) في باب النَّيرب بحلب، بإجازةٍ من والدِه الشَّيخ عبد الرَّحمن رضي الله عنهما. ومنها زاويةُ الشَّيخ أحمدَ الخير بن الشَّيخ عبدِ الرَّحمن بن الشَّيخ محيي الدِّين بادنجكيِّ، يقيمُ الذِّكر فيها عصرَ كلِّ يوم أربعاء في مسجد الأرمنازيِّ في حارة الباشا بحلب. ومنها زاويةُ الشَّيخ عبد الرَّحمن بنِ الشَّيخ عثمان بنِ الشَّيخ عبد الرَّحمن بن الشَّيخ محيي الدِّين بادنجكيِّ في محلَّة حلب الجديدة بحلب وَقَفَها لإقامة الأذكار والصلوات وقِرى الضِّيفان فيها. ومنها زاويةُ الشَّيخ أحمدَ بن الشَّيخ عثمان بن الشَّيخِ عبدِ الرَّحمن بن الشَّيخ محيي الدِّين بادنجكيِّ، يقيمُ الذِّكر فيها ليلةَ كلِّ ثلاثاء بعدَ العِشاء في مسجد الحريريِّ في محلَّة الفرافرةِ بحلب.
- وجديرٌ بالذكر أن ينوَّهَ إلى زاويةِ الشَّيخ عبدِ الواحد المَيْدَانجكي ابنِ الشَّيخِ عليِّ بنِ الشَّيخِ عبدِ الواحدِ القدوة الحسينيِّ النَّبهانيِّ الَّتي كان يقيمُ الذِّكر فيها كلَّ يوم اثنين خلف جامع سليمان في محلَّة الضُّوضو بحلب بإجازة من شيخِه محمَّدِ بنِ إبراهيمَ الهلاليِّ، والشَّيخُ عبدُ الواحد صاحبُ الزَّاوية هو ابنُ أخي الشَّيخ سعيد المَيْدَانجكيِّ الكبير أولِ من أحيا الأذكار والأورادَ في المدرسة الطُّرنطائيَّة.
ولا تزال الزَّاويةُ البادنجكيَّةُ في المدرسة الطُّرنطائيَّة بفضل اللهِ تعالى ورسولِه -صلَّى الله عليه وسلَّم- ثمَّ بتقوى أولئك الرِّجال عامرةً بمجالسِ القرآنِ والعلمِ الشَّريفِ كلَّ يومٍ، وبمجالسِ الذِّكرِ ليلةَ كلِّ جُمُعةٍ وظهرَها، وبالخلواتِ كلَّ سنةٍ أربعين ليلةً في الشِّتاءِ وسبعةَ أيامٍ في أواخر رجب وأوائل شعبان، وبالاعتكافِ في العشر الأواخِر من شهرِ رمضان، يقوم بها الصَّالحون المُخلَّفون من ذُرِّيَّة الشَّيخِ محيي الدِّين المَيْدَانجكيِّ رضي الله عنه.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبِه وسلَّم
حرِّر في 20/شوال/1430هـ
وكتبه الفقير إلى عفوِ ربِّه د. حسن بن السَّيِّد عبد الرَّحمن البادنجكيُّ عُفي عنه
المراجع: ذيلُ تاريخ أبي الفدا لابن الوَرديِّ، والدُّرر الكامِنة في أعيان المئة الثَّامنة للحافظ ابن حَجَر العسقلانيِّ، والوافي بالوَفَيات للصَّفَديِّ، ونهر الذَّهب في تاريخ حلب للشَّيخ كامل الغَزِّيِّ، ومنظومة الشَّيخ أبي الوفا في أولياء حلب، وإعلام النُّبلاء بتاريخ حلب الشَّهباء للشَّيخ محمَّد راغب الطَّبَّاخ، ومخطوطات للسَّادة البادنجكيَّة ترجع إلى القرنِ الثَّالث عشرَ الهجريِّ، ومشافهاتٌ ومعلومات محفوظةٌ من أحفادِ الشَّيخ محيي الدِّين البادنجكيِّ رضي الله عنه.