بسم الله الرَّحمن الرَّحيم الحمدُ لله ربِّ العالمينَ،
وأفضلُ الصَّلاةِ وأكملُ التَّسليمِ على سيِّدِنا ومولانا مُحَمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.
1- الموقعُ والتَّاريخ:
تقعُ المدرسةُ الطُّرنطائيَّةُ في حلبَ الشَّهباءِ خارجَ بابِ النَّيرَب في محلَّةِ الأكرادِ المعروفةِ الآن بمحلَّةِ محمَّد بك في زُقاقِ المدرسة. ويذكرُ سوفاجيه أنَّ هذه المدرسة هي المدرسةُ الكماليَّة العديميَّة نفسُها الَّتي شرع في بنائها مؤرِّخ حلب ابنُ العديم في سنة: (639هـ/1241م)، وانتهى منها في سنة: (649هـ/1251م)، فهي من مدارسِ العهدِ الأيوبيِّ.
وسُمِّيَت بالطُّرنطائيَّة - كما ذكر الحافظُ ابنُ حجر في الدُّرر الكامنة والشَّيخُ كاملٌ الغَزِّيُّ في نهر الذَّهب والشَّيخُ راغبٌ الطَّباخُ في إعلام النُّبلاء - نسبةً إلى نائبِ دمشق الأميرِ سيفِ الدِّين طُرنطاي بنِ عبدِ الله المتوفَّى سنة: (792هـ/1389م)، وكان أميرًا جليلًا مُهابًا مُطاعًا عادلًا في حُكمه جَدَّدَ المدرسةَ المذكورة، وعمِل لها خطبة، ووَقَفَ على ذلك وَقْفًا جيِّدًا.
وقد كُتبَ على باب المدرسة: ( أَوقفَ هذين الجامعَ والمدرسةَ السَّيِّدُ عفيفُ الدِّين بنُ محمَّد شمسِ الدِّين سنة: 785هـ).
والسَّيِّدُ عفيفُ الدِّين هو عفيفُ الدِّين بنُ محمَّدٍ شمسِ الدِّين بنِ الأميرِ حسامِ الدِّين طُرنطاي المنصوريِّ نائبِ السَّلطنة للملكِ المنصورِ قلاون الصَّالحيِّ.
كما هو موثَّقٌ في خلاصةِ كتاب وقفِ المدرسةِ والجامعِ الَّتي كانت محفوظةً لدى القائمين على شؤونِ وقفِهما من السَّادة آلِ البادنجكيِّ.
وأفادت بعضُ مخطوطاتِ نسبِ الشَّيخِ أويس أبي طاسةَ المتوفَّى في أوائل القرنِ السَّابع الهجريِّ بعقدين أو ثلاثة، المدفونِ في المكان الَّذي أُنشِئت عليه المدرسةُ أنَّ ذلك المكانَ كان ديرًا مهجورًا.
وأفاد الشَّيخ أحمد المكتبيُّ إمامُ المدرسة الدّليواتيَّة أنَّه كان مَسكونًا من قِبَلِ الجنِّ فافتتحه الشَّيخُ أويسٌ أبو طاسة ودرَّسَ فيه العلم الشَّريف.
ويمكنُ التَّوفيق بين أقوالِ المؤرِّخينَ وما كُتِب على بابِ المدرسة وفي خلاصةِ وقفِ المدرسةِ والجامعِ، وما وُجِد في بعض مخطوطاتِ الأنسابِ الأويسيَّةِ في سنة: (1129هـ)، وسنة: (1225هـ)، وما رُوي عن بعض أهل العلم بما يأتي:
قَبلَ بناءِ ابنِ العديم للمدرسةِ كانت ديرًا مهجورًا بسبب الزِّلزال الَّذي أصابَ حلب في سنة: (565هـ) فسكنه الجنُّ، وافتتحه الشَّيخُ أويس أبو طاسة في أواخر القرن السَّادس، ودرَّس فيه العلمَ الشَّريف إلى أن توفِّي في ذلك المكان، فجاء ابنُ العديم في العهد الأيُّوبيِّ فبنى على ذلك المكان مدرسةً انتهى من بنائها سنة: (649هـ). ثمَّ أصاب المدرسةَ الخرابُ لأسبابٍ، منها: تدميرُ هولاكو مدينةَ حلب سنة (658هـ/1260م)كما أرَّخه ابنُ كثير في البداية والنِّهاية، والزِّلزالُ الَّذي أصاب مصرَ والشَّامَ وحلب سنة: (744هـ)، والَّذي تَصدَّعت منه جدرانُ المساجدِ، وهَدَّم القلاعَ والحصونَ وأخرجَ أهلَ حلب إلى البراري. ثمَّ جاء عفيفُ الدِّين بنُ محمَّد شمسِ الدِّين بنِ حسامِ الدِّين طرنطاي في العهد المملوكي فأتمَّ بناءَ الجامعِ والمدرسةِ على نفقتِه في سنة: (785هـ/1383م)، ثمَّ حَدَثَ زلزالٌ عظيمٌ في حلب سنة: (789هـ/1387م)، ثمَّ جاء الأميرُ سيفُ الدِّين طُرنطاي بنُ عبدِ الله المتوفَّى سنة: (792هـ) فجدَّد المدرسةَ وعمِل لها خطبةً، وجعل لها وقفًا جيِّدًا فنُسبَت إليه.
ومِمَّن ذكر تواريخَ هذه الزَّلازلِ العظيمةِ في حلب الشَّيخُ كاملٌ الغَزِّيُّ في كتابِه نهر الذَّهب، ونقلَها عنه الدُّكتور محمود الرِّفاعيُّ في كتابه حلب بين التَّاريخ والهندسة. أمَّا مَنارةُ المدرسة فعُمِّرت في العهد العثمانيِّ سنة: (1293هـ/1876م) مِن وصيةِ بعض الموثراتِ.كما ذكره الشَّيخ راغب الطَّباخ.
2- الوصفُ المعماريُّ:
المدرسة الطُّرنطائيَّة كما قال الشَّيخ راغب الطَّباخ في تاريخه: (مدرسةٌ شاهقةُ البناء تضارِعُ القِلاعَ في إحكامِ البناءِ وإتقانِه). وقال عنها الشَّيخُ كاملٌ الغزِّيُّ في كتابه نهر الذَّهب: (مدرسةٌ حافلةٌ عامرةٌ متقَنةُ البناء كأنَّها حصن)، وتشتمل المدرسةُ والجامعُ على أكثر من مدخلٍ، وعلى قِبليَّةٍ وزاويةٍ وغُرفٍ للمجاورين من أهل العلم والعبادة، وعلى مكتبةٍ ومدفنٍ ومنارةٍ ودارٍِ تابعة للمدرسة، وعلى مرافقَ عامَّةٍ وباحةٍ يُحيط بها إيونان من الشَّمال والجنوب، وروقانِ من الشَّرق والغرب يعلوهما روقان للغرف.
3- أعلامُ المدرسةِ من أهلِ العلم والسُّلوك:
قَبلَ بناءِ ابن العديمِ للمدرسةِ كان الشَّيخُ أويسٌ أبو طاسة يدرِّس العلمَ في هذا المكان إلى أن توفِّيَّ في أوائل القرن السَّابعِ الهجريِّ بعقدين أو ثلاثة أي ما بين سنة: (620هـ) و(630هـ) ودُفِن في المكان نفسِه. كما أفادتْه مخطوطاتُ نسبه. وبعدَ انتهاء ابنِ العديمِ من بناء المدرسة سنة: (649هـ) لم يدرِّس بها أحدٌ، لأنَّّ الدَّولةَ النَّاصريَّة انقرضتْ قبل استيفاءِ غرضِه فيها. كما ذكره الشَّيخُ راغب الطَّباخ نقلًا عن سبطِ ابنِ العجميِّ من كتابه كنوز الذَّهب. ودُرِّست فيها العلوم الشَّرعيَّةُ بعد إتمام بناءِ السَّيِّد عفيفِ الدِّينِ بن محمَّدٍ شمسِ الدِّين لها سنة: (785هـ) وصُرِفَ للقائمين عليها مرتَّبات معلومة مقدَّرة بكتاب الوقف. كما هو مدوَّنٌ في خُلاصة الوقف في المدرسة.
وبعد أن جعل الأميرُ طرنطاي بنُ عبد الله للمدرسةِ خطبةً خطبَ فيها الشَّيخُ الصَّالحُ أحمدُ الزَّركشيُّ، قال سبطُ ابنِ العجميِّ في كتابِه كنوز الذَّهب المتوفَّى سنة: (884هـ) في كلامه عن المدرسة العَديميَّة: (أُقيمت فيها الجمعةُ في زماننا واستمرَّت، وكان يخطبُ فيها الشَّيخُ الصَّالحُ أحمدُ الزَّركشيُّ).
ثمَّ جاور فيها الشَّيخُ العالم داود المرعشيُّ الحنفيُّ الصُّوفيُّ الأويسيُّ مع بعض المريدين، وكان قد أخذ العهدَ على شيخِه الصُّوفيِّ الخلوتيِّ المعمَّرِ أويسٍ القرمانيِّ المتوفَّى بدمشق سنة: (951هـ)، ولما أُطلِقَ سراحُ القرمانيِّ من قلعةِ حلب توجَّه الشَّيخُ داود معه لدمشق ومات فيها سنة: (955هـ). كما ذكره الشَّيخ راغب الطَّباخ في تاريخه.
وذكر الشَّيخُ راغبٌ في ثبَته: ( الأنوار الجليَّة في مختصر الأثبات الحلبيَّة ) في كلامه عن أخذِ الشَّيخ عبدِ الكريمِ الشَّراباتيِّ المتوفَّى سنة: (1178هـ) عن العارفِ بالله العلَّامة الشَّيخ مصطفى البكريِّ الصِّديقيِّ المتوفَّى سنة: (1162هـ) ذكر أنَّ الشَّيخَ مصطفى البكريَّ الخلوتيَّ الصِّديقيَّ مكَثَ في المدرسة الطُّرنطائيَّة في باب النَّيرب فبايَعَه كثيرٌ من النَّاس وهُرعوا إليه. كما ذكر الشَّيخ أحمدُ المكتبيُّ أنَّ من جملة خلفاء الشَّيخ مصطفى البكريِّ الشَّيخَ محمَّدًا المكتبيَّ، وأنَّ ثُلَّةً من أجلَّة علماءِ تلك الأسرةِ المباركةِ جاوروا للعلمِ والعبادةِ في المدرسة الطُّرنطائيَّة.
ثمَّ عُمِّر المكانُ بالوليِّ الشَّهير والنَّاسكِ المُسلِّك الجليل، العارفِ بالله تعالى السَّيِّد الشَّيخ محمَّد سعيد بنِ السَّيِّد عبدِ الواحد المَيْدَانجكيِّ الحسينيِّ النَّبهانيِّ نسبًا، الشَّافعيِّ مذهبًا، القادريِّ والخلوتيِّ طريقةً، المولود في حلب سنة: /1189/هـ، سليلِ أهل الحديث من آل النَّبهانيِّ الحسينيَّةِ أصحابِ الزَّاوية الشَّهيرة في جِبرين ظاهر حلب فلزِم وخلفاؤه المدرسةَ الطُّرنطائيَّةَ وعمِل على إحياء حِلَق الذِّكر والأورادِ والخلواتِ فيها إلى أن توفِّيَ سنة: (1252هـ)، فخلَفَه ولدُه الشَّيخ محمَّدٌ الشَّهير بـ: (أبي كِرْش) ثمَّ ولدُه الآخَر العالم العلَّامةُ الشَّيخُ محيي الدِّين ثمَّ خلفاءُ الشَّيخِ محيي الدِّين من بعده من آل البادنجكيِّ. والمدرسة الطُّرنطائيَّة إلى الآن بفضلِ الله تعالى وعونِه وهدي رسولِه -صلَّى الله عليه وسلَّم- عامرةٌ بهم وبإخوانهم بمجالسِ العلمِ والوعظِ والإرشادِ، وحلقاتِ القرآنِ والأذكارِ والخلواتِ والأورادِ، سائلين المولى تعالى دوامَ نفعِها وازديادَ بِرِّها. وصلَّى الله على سيِّدنا ومولانا محمَّد وعلى آله وصحبِه وسلَّم حرِّر في 20/شوال/1430هـ وكتبه الفقير إلى عفوِ ربِّه
د. حسن بن السَّيِّد عبد الرَّحمن البادنجكيُّ عُفي عنه
المراجع: البدايةُ والنِّهاية لابن كثير:13/253، والدُّررُ الكامِنة في أعيانِ المئةِ الثَّامنة للحافظِ ابنِ حجر العسقلانيِّ: 2/378، وكنوزُ الذَّهب لسبطِ ابن العجميِّ: 1/248، ونهرُ الذَّهب في تاريخ حلب للشَّيخ كامل الغَزِّيِّ: 2/274، 3/84-149-161، وإعلامُ النُّبلاء بتاريخ حلب الشَّهباء: 4/460، 5/107-503-516، والأنوارُ الجليَّة ص: (224)، كلاهما للشَّيخ محمَّد راغب الطَّبَّاخ، ومخطوطات للسَّادة الأويسيَّة ترجع إلى أوائل القرنِ الثَّالثَ عشرَ الهجريِّ، ومخطوطاتٌ لدى السَّادة البادنجكيَّة ترجع إلى أوائل القرنِ الرَّابعَ عشرَ الهجريِّ، ومدارسُ حلب الأثريَّةُ للمياء الجاسر ص: (222)، والمدرسةُ الطُّرنطائيَّة في سجلَّات مديريَّةِ أوقاف حلب، المحضر: /1958/ من المنطقة: /11/، وحلب بين التَّاريخ والهندسةِ لد. محمود الرِّفاعيِّ ص: (136)، ومشافهاتٌ من أبناء الشَّيخِ أحمدَ المكتبيِّ وإخوانه.